حيث سوريا حقل فسيح يحده الأفق، على حد تعبير فاطمة ياسين في مجموعتها "ميغ 21" (دار نون
– الإمارات العربية المتحدة 2015)، تبدو مصائر الناس في الجغرافيا السورية الممزقة، والفصام السياسي الذي يجمع النظام والمعارضات على حد سواء، رهينة ما تبقى من خيالات السوريين الذين لم يتصوروا من قبلُ أن في مقدورهم إشعال ثورة في يوم ما، كما لم يتخيلوا أن في مقدور الديكتاتور أن يدافع عن مزرعته السورية بهذا القدر غير المسبوق من الوحشية.
تقارب فاطمة ياسين حالات إنسانية صادفتها في رحلتها من حي ركن الدين الدمشقي باتجاه مهجرها الموقت – المديد في تركيا، أو هي تخيلت تلك الحالات الإنسانية، وكستها لحم الأدب لتسبر ما تداعى بين حفرتين في الذاكرة، حفرة الأبد الذي سلب السوريين إنسانيتهم، قبل خيارهم السياسي، وحفرة الموت المتنقل بين كل انفجارين في كل لحظة بعد الإيذان ببداية نهاية الأبد السوري.
ضمير حالك
في قصة "السجين"، تبدو التناقضات الإنسانية في أحلك صورها بين الجلاد والضحية. التقى الضحية الجلاد في موقف إنساني أول ساعد فيه الضحية جلاده المستقبلي، حين كانا مجرد إنسانين سوريين. وعندما أصبح الضحية متهماً بالتظاهر تنازعت الجلاد مشاعر إنسانية أولية انتصر فيها السلطوي على الإنساني، والوظيفي على الضمير "يفلت السوط من بين أصابعه، ويجثو على ركبتيه أمام جثة صالح. يحضن الرأس بكلتا يديه، وينظر بحزم في عيني صالح المفتوحتين. أما عيناه هو فتنكران دمعة لا تلبث أن تسقط بعد لحظات" ص89.
الجملة الأولى والأخيرة
تبدو إحدى أهم ملامح موهبة فاطمة في نهايات قصصها. وقد يصح تشبيه هذه الميزة باندياح الدوائر في بركة ماء ساكنة بعد إلقاء حجر فيها. فحين يغوص الحجر في الماء، يبدأ الماء في تجميع نفسه من جديد معوضاً ما احتله الحجر من مكان باتساع يتزايد دوائرَ. قد يفيض على جرف، أو لا يفيض، لكن الناظر إلى تلك الدوائر ستأسره الحالة الفيزيائية كمن ينظر إلى قلم المنوم المغناطيسي الذي يوهم شريكه بامتلاكه قدرات خارقة دون أن يكون ذلك حقيقة بالضرورة.
فوق ذلك، عرفت فاطمة في معظم قصصها كيف تصوغ أول جملة، ممسكة بيدي القارئ إلى متن السرد بسلاسة يحسدها عليها خبراء في الكتابة.
وهاتان الميزتان يُؤسس عليهما إذا أرادت فاطمة وضع اسمها بين كتاب القصة المحترفين.
نزعم، هنا، أن الكتابة، قصة، أو شعراً، أو رواية، أو مسرحية، أو مقالة صحفية، إذا كانت جيدة فهذا يعني أن الكاتب عرف كيف يبدأ وكيف ينتهي، لأن ذلك يعني ببساطة الاقتصاد في اللغة، وعدم الولوغ في شروح ومونولوجات تلهيه عن الفكرة، وتبعث السأم في نفس القارئ.
فالدهشة في الفن قد تأتي من اللغة، أو الفكرة، أو ما بينهما عبر مفارقات يتقنها الأديب دون أن يعرف حقاً كيف يفعلها مسبقاً.
كما أن الدهشة تأتي في كل الأحوال من الأسلوب، والأسلوب هو اللغة، أو "الحكي"، حتى نكاد نضع القصص الشفوية ورواية النكات في مصاف الأدب، أو التراث والفولكلور غير الملموس.
الأسلوب هو المرأة
وإذا كان الأسلوب هو الرجل! هنا، في المجموعة القصصية الأولى لفاطمة ياسين، الأسلوب هو المرأة.
الفضاء العام لقصص المجموعة تملأه سوريا في زمن الثورة، أو يملأه سوريون قذفت بهم الثورة خارج جغرافيا بلدهم، حاملين مآسيهم على شكل آمال تجمع هدف الابتعاد عن العنف والموت، مع هدف البحث عن حياة جديدة عرفوا فيها الحرية، كعنوان، دون أن يتيح لهم الموت الوفير أن يمارسوها.
في قصة (انشقاق عازف كلارينيت من فرقة موسيقا الجيش)، بعنوانها الطويل، وغير المبرر، على الأقل كونه يفضح نهاية القصة قبل أن تبدأ، تسرد فاطمة حكاية عازف كلارينيت يصادف أن اسمه محمود الحاج دون ضرورة للاسم في القصة، مادامت القصة خالية من الحوار، ومادام بقية الشخوص بلا أسماء. العازف يحفظ عدداً قليلاً من الألحان التي تتكرر في "المناسبات الوطنية". يمنع حاجز عسكري العازف "الوظيفي" من الوصول إلى المستشفى ليؤدي دوره ضمن الفرقة التي تعزف لحن الشهيد أثناء إخراج نعوش قتلى الحرب. في طريق العودة، يصطدم محمود بمشهد جثة وسط شارع، دون أن يجرؤ أحد على إكرام الجثة بما يليق بها في برزخها، بعد حياة ليست كريمة "كان الوجه فتياً وباسماً،.. مدَّ محمود يده وردَّ طرف القميص على صدر الشاب، ثم وقف عند رأسه بثبات وفتح حقيبته بهدوء. لم يبالِ بصوت الرصاص الذي بدأ يتصاعد ويقترب. تناول الكلارينيت ورفع رأسه ونفخ فيها كأنه يؤذن اللحن الذي يعرفه. بضع علامات موسيقية متكررة يدعونها لحن الشهيد" ص 14.
ربما أرادت فاطمة القول إن عازف الكلارينيت عزف هنا لجندي مجهول صادف أنه في منطقة تقاطع نيران فقُتل، مستبدلاً حالة العزف المعتادة على نعش ضحية محسوب على النظام بالعزف فوق جثة محسوبة على معارضي النظام. لكن في الحالتين ربما تكون الجثتان "ضحيتين" لحالة الحرب ليس إلا، أو ضحيتين لوضع لم يختره أي منهما لو كان حر الإرادة. كما أرادت القول إن العازف مارس دوره الإنساني بالحزن على ضحية سوري دون عنوان سياسي. لم تقل فاطمة هذا بوضوح، ولعل هذا ما يعطي قصتها تلك القوة من خلال البدائل في التأويل التي تتيح للقارئ أن يعيش مع الفكرة ما بعد زمن قراءته لها.
تقشف لغوي
لغة فاطمة علمية إن جاز التعبير. هي على الأقل بعيدة عن الإنشاء والبلاغة التي لا تؤدي إلى مكان. كما تغيب عن موضوعات الكاتبة تلك الشواغل الأنثوية الطاغية في الكتابات المعتادة للمرأة عموماً، والمرأة العربية خصوصاً.
وفي معظم قصص المجموعة، نجد نوعاً من الترابط المنطقي للأفكار، يعلو صعوداً، أحياناً، أو يهبط منحدراً، وفي النهايات تبتر فاطمة الحدث المتوقع لتهبط الخاتمة بشكل شاقولي في آخر جملة تكتبها، بما يشبه القطع.
ومن ضمن التراجيديا السورية أن الصورة وضعت الكلمة المكتوبة في منافسة غير شريفة، من حيث سرعة نقل الحدث وواقعيته. فالصورة أكثر بلاغة من حيث الإيجاز والسرعة، وأي شرح على الصورة يتجاوز وصف زمان ومكان التقاط الصورة سيكون حتماً تدخلاً تعسفياً من باب "فسَّر الماء بعد الجهد بالماء". أما صور فاطمة فالتقطتها ما بين لقطتين لم يستطع مصورو الميديا التقاطها. هنا مكان الفن حين تكون مادته اللغة. فاللغة أيضاً تمتلك مواصفاتها الغرافيكية التي تشبه غرافيك الصورة، أو اللوحة، حيث تعمل اللغة في الوقت الفسيح ما بعد وضع الفنان آخر لمسة على لوحته، أو ما بعد إنجاز الكاميرا وظيفتها بين انفتاح وانغلاق العدسة.
كانت فاطمة ياسين محظوظة في خيارها هذا، وكانت تمتلك الوقت للبحث في خيالها عن الناجين بين مذبحتين، أو بين غارتين، أو بين اغتيالين، أو بين جوعين لفقير حين نسيت أسنانه لدانة الرغيف، ونسي لسانه طعم آخر خبز.
طلاق الحرب
في قصة "طائفية" يبدو ضجيج الحرب بعيداً عن المعنى الحرفي لما يعانيه السوريون، غير أن حرباً أخرى تدور في بيت سوري بين رجل وزوجته وطفلة ملقاة على الأرض. يقول الزوج (قصي شعرك إذا بدو يظل ينزل على عيونك. ردت كمن يملك سلاحاً لا يريد أن يفرط به "ما رح قصوا.. إذا مو عاجبك اتركني.. طلقني". لم تبكِ الطفلة الملقاة على الأرض. تابعت النظر بارتباك إلى أبويها. طلقك؟؟ قالها وكأنه يكتشف دواء سحرياً. صمت لحظة ثم نظر إلى طفلته، ورفع عينيه إلى زوجته التي كانت ترد خصلة متمردة سقطت على وجهها، وقال بهدوء المنتصر: "أنت طالق" ص31).
لابد من!
ذلك في ما يتعلق بـ "ميغ 21"، وموهبة فاطمة ياسين، كملحوظات إجمالية قد يتاح مستقبلاً تفصيلها.
ضمت المجموعة 26 قصة في 108 صفحات، إذا تغافلنا عن صفحات التقريض التي تشبه مقدمة كتبها كل من خطيب بدلة، وفرج بيرقدار، وعادل بشتاوي، على التوالي. التقريض جاء تحت العنوان العام "هذه الكاتبة.. هذه القصص"، بينما حملت العناوين الفرعية أسماء بيرقدار وبشتاوي، في تسلسل أغفل أن لكل كاتب صفته الاعتبارية، وأن لكل منهم قولاً مختلفاً قد لا يندرج تحت العنوان العام الأول. ثم إن قول بيرقدار بدأ في نهاية قول بدلة، في الثلث الأخير من صفحة، وتلاه قول بشتاوي في منتصف الصفحة التالية.
فأي ناشر هذا، وأي تبجيل ذاك لسلطة المَلازم الطباعية، وأي طغيان لسعر الورق الذي جعله يستخف بأسماء ضيوفه هكذا!
هذا يفتح باب التساؤل المطروق عن دور الناشر، الذي لا يتعدى في عالمنا العربي كونه طابعاً للكتاب، أو مسوقاً له. هو باختصار يلعب دور تاجر كتب، دون أن يغير في الأمر شيئاً أن السلعة كتاب.
قبل ذلك، لابد من ملاحظة أن الثلاثة كتبوا تقريضهم على المخطوط قبل النشر، فامتدحوا موهبة فاطمة بما يستحق عملها، دون شك، لكنهم قصروا، دون شك أيضاً، في تنبيهها كي لا تقع في أخطاء يقع فيها عادة من يخوض تجربة النشر لأول مرة. من ذلك أن المستويات المتفاوتة للقصص، وبشدة أحياناً، خلخلت الهارموني المفترض أن يتوفر في المجموعة. كما أن ترتيب القصص إذا باشره خبير يمكن أن يغير كثيراً في طبيعة التلقي.
على ذلك، ومن وجهة نظري، كان لابد من القصص التالية، على سبيل المثال: (حقل فسيح يحده الأفق، ميغ 21، قبة قميص، طقس بارد ونهار قصير، سهرة، رجل حبيب، طائفية، رمضان...، قناص، ساميا، رحلة علاج، قسم أبُقراط.
أما القصص، وعلى سبيل التمثيل، أيضاً: (حقيبة سفر، مداهمة، الطريق إلى تركيا، عروس، فيسبوك) فكان يمكن الاستغناء عنها بمبرر أنها فوتوغرافية الصور، أو كانت تحتاج إلى شغل أكثر حتى ترتقي إلى جودة المجموعة المشار إليها في الفقرة السابقة.
هنا يتشارك الناشر والأساتذة (بدلة، وبيرقدار، وبشتاوي) في هذه الخطيئة، إذا أردنا التماس عذر لفاطمة غير الخبيرة بمجال النشر بعد.
وفي العودة إلى دور الناشر الغائب تقريباً هنا، أغفلت دار نون ضرورة مراجعة "ميغ 21" من ناحية اللغة، لتجنب الأخطاء الطباعية على الأقل، بالإضافة إلى عيوب في بعض العبارت والجمل، هنا وهناك.
صحيح أننا لا نطمح بعدُ في دور النشر العربية، عموماً، أن يوظف الناشر كادر تحرير يعمل مع المؤلف على إعادة تحرير المخطوط، تصحيحاً، وحذفاً، وإضافة، لكن الناشر صناعي في وجه من الوجوه، يقدم سلعة يطمح أن تكون جيدة الصنع، مكونة من مواد خام جيدة، نظيفة، ومغلفة بشكل جيد، ولا مانع أن ينفق على الدعاية والإعلان كي يروج لبضاعته. فإذا وصلت السلعة إلى المستهلك سيتخذ قراره بشراء السلعة، أو عدم شرائها.
بالطبع، الناشر أذكى من أن لا يكون مدركاً لذلك، لكنه يتغافل ليوفر المال. الأمر بهذه البساطة، حتى لا نتهمه بجهل دقائق عمله.
شكاوى الناشرين مستمرة من قلة القراء، ومن تراجع القراءة، وستستمر مادام الناشر لا يعمل على تصحيح هذا الخلل الاقتصادي.
هذا مع ملاحظة أن غالبية الناشرين العرب هم أفراد، وليسوا مؤسسات. لكن صناعة "الوراقة" حتى لو استخدمت المطابع الحديثة لابد فيها من دور أساسي للجهد الإنساني والخبرة قبل الطبع.
كان لا بد من هذا التبسيط، مع التكرار والإصرار على أن الكتاب سلعة مكانها السوق، بالرغم من التبجيل الذي قد يحظى به الكتاب، كغذاء للروح وفق العبارة المعروفة.
لن نغامر بالطلب من الناشر أن يوظف محررين خبراء، كون ذلك يتطلب دفع مال ورواتب، لكن كان بإمكان دار نون تقديم كتاب خال من العيوب اللغوية، والفنية، مادام أساتذة قرأوا المخطوط.
لا نغامر، أخيراً، وأيضاً، بالحديث عن الوكيل الأدبي للكاتب، فذلك حلم جد بعيد.